مقالة بعنوان (جدلية العلاقة بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية)

بقلم : أ.م. د علياء حسين خلف الزركوشي رئيس قسم الاقتصاد

تعكس مسيرة التنمية البشرية مسيرة نظريات التنمية نفسها ومسيرة النمو الاقتصادي ذلك لان التنمية البشرية هي جزء من كل، فهي لم تطرح مستقلة بحد ذاتها وكيف ان تطور هذا المفهوم من عقد إلى عقد آخر مع تطور الأصل ،وكان في كل فترة أنما يعكس جملة المقاربات المعروفة ،كما هو الحال عندما تعكس التنمية المتبعة في بلد محدد خلال فترة محددة أكثر من جانب لأكثر من نظرية تنموية ،وإن طغت نظرية معينة على البقية ولقد تم استخدام أكثر من تعبير للدلالة على مفهوم التنمية البشرية إلى أن استقر الرأي حالياّ وعلى المستوى الفكري عند استخدام هذا المفهوم بالشكل الذي حدده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عبر عمله الذي برز مع بداية التسعينيات عبر إصدار تقرير التنمية البشرية الأول، ويوضح هذا التقرير أوضاع التنمية البشرية في العالم ، وقد جاء هذا الاهتمام من اعتبار أن نماذج التنمية البشرية ولاسيما تلك المرتبطة بالاستثمار البشري تمتلك بطبيعتها تأثيراّ على مجريات التفكير والفهم الاقتصادي وذلك بإنتاجها قدرات بشرية تمتلك ممكنات تشخيص حدود التنمية الاقتصادية وأبعاد تأثير الاقتصاد الكلي في مسارات النمو إذ تنتج القابلية البشرية عالية الكفاءة في إدارة النشاط الاقتصادي وتحقيق ارتفاع في مقدرتها على تحسين الإطار المتعلق بالقدرات الاجتماعية.
ولقد كان مضمون التنمية البشرية يختلف باختلاف التسميات المعتمدة، فخلال الخمسينيات ارتبط بمفهوم الرفاه الاجتماعي وبعدها انتقل للاهتمام على أهمية التعليم والتدريب، ثم ركز على إشباع الحاجات الأساسية، ليقدم بعد ذلك ما جاء في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مضمون تشكيل القدرات البشرية، وكذلك مضمون تمتع البشر بقدراتهم المكتسبة في جو من الحرية السياسية واحترام حقوق الإنسان. ويبدو أن الفكر التنموي الحديث عاد ليكتشف الحقيقة البديهية وهي أن البشر هم صانعو التنمية يجب أن يكونوا أهدافها، تماماّ كما كان فلاسفة اليونان فلقد اكتشفوا ذلك من قبل وخصوصاّ أرسطو عندما قال (انه من الواضح أن الثروة لا تمثل الخير الذي نسعى إلى تحقيقه، فهي مجرد شي مفيد للوصول إلى شي آخر)
أو كما قال ابن خلدون في مقدمته أن (الإنسان غاية جميع ما في الطبيعة وكل ما في الطبيعة مسخر له)، وبذلك تكون طريقة التحليل للتنمية تختلف عن المناهج التقليدية في تحليل النمو الاقتصادي ،فنمو الناتج القومي الإجمالي ينظر أليه على أنه ضروري لكنه غير كافٍ للتنمية البشرية ،فقد تفتقر المجتمعات إلى التقدم البشري رغم سرعة نمو الناتج القومي الإجمالي ،ما لم ُتتخذ بعض الخطوات الإضافية ،كذلك تتوجه نظريات تكوين رأس المال البشري وتنمية الموارد البشرية إلى الناس باعتبارهم وسيلة فعالة وليس غاية ،وأن البشر هم أكثر عوامل الإنتاج نشاطا هم ليسوا سلعاً إنتاجية تستخدم لإنتاج سلع أخرى فهم الهدف الأسمى للعملية الإنتاجية والمنتفعون بها ،وتنظر مناهج الرفاهية البشرية ان الناس منتفعين من عملية التنمية أكثر من كونهم مشاركين فيها أي سياسات التوزيع هي المهمة بشكل أكبر من الاهتمام بهياكل الإنتاج ثم جرى الاهتمام بعدها بإشباع الحاجات الأساسية من غذاء ومأوى وملبس ورعاية صحية ،وإزاء هذا التركيز على توفير السلع والخدمات تتوارى مسالة الخيارات البشرية .
وبعد هذا التحليل يمكن الوصول إلى قناعة بأن النمو الاقتصادي لا يمكن إدامته دون التنمية البشرية ،كما أن هذه التنمية لا يمكن إدامتها دون تحقيق النمو الاقتصادي وان هذا الترابط يأتي وثيقاً وضرورياً في المدى الطويل أكثر منه في المدى القصير ،الذي يتمتع فيه كلاهما باستقلالية نسبية احدهما عن الآخر ،أو بكلمات أخرى تكون العلاقة بينهما في المدى الطويل تبادلية فكلاهما لا يستديم أو يستقيم دون الآخر بمعنى تحقيق نمو اقتصادي قادر على توسيع قاعدة الثروة وتأكيد فاعلية الروابط بين النمو الاقتصادي ورفاهية الأفراد والمجتمع ،فخلق الثروة هو وظيفة النمو الاقتصادي وهي مسالة كمية أما عملية توزيعها فهي مسؤولية السياسات وهذه مسالة نوعية ،ومن خلال هذين البعدين تقع حالات العلاقة ومضامينها المختلفة ما بين النمو والتنمية البشرية ، وأن الجدلية بين القدرات والخيارات تعيدنا إلى الموقف من قضية التنمية بوجه عام ،فهناك شبه اتفاق ضمني على أن التنمية تعني الجهود التي تستهدف زيادة القدرات الاقتصادية للمجتمع ،غير أن تقدير مدى قبول ما ينجم عن هذه الجهود يؤدي إلى أنماط مختلفة من التنمية ،فهناك تنمية مشوهة تتم في إطار من التبعية وأخرى جديرة بالاعتبار لأنها تتم في إطار من الاعتماد على النفس فهي تنمية مستقلة ثم هناك استراتيجيات التنمية يتم الاختيار بينها وفقاً لمعيار أو آخر وإذا كانت المعايير التي يتبناها مجتمع ما تستند في نهاية الأمر إلى الغايات التي يرتضيها فإن عملية صياغة الأهداف ذاتها ليست من قبيل المعطيات التي لا تخضع لمناقشة علمية ،فمعظم الانتقادات التي وجهت إلى خطط التنمية أكدتْ عدم ملاءمة الأهداف بقدر ما أظهر قصور أجهزة التنفيذ عن أداء الواجبات التي حددتها الخطط وإذا صح في التحليل الاقتصادي أن ينظر إلى دول الاختيار على أنها تخرج عن نطاق علم الاقتصاد وأنها من ثم تعتبر من قبيل المعطيات بالنسبة إليه ،فإن هذا يجب ألا يقيد الفكر التنموي الذي يستهدف النهوض بالمجتمع بدءاً من الطموح بالأهداف.
وبذلك يعد إدراج البعد البشري بصورة مترابطة وليس كمجرد رداء تتجمل به التنمية الاقتصادية ويتطلب إعادة نظر شاملة تعم نظريات التنمية وممارستها ومن الافضل التحول من الجدلية التي تضع دور الفرد وحقوقه في مواجهة دور الدولة وسلطاتها إلى موازنة بين دور الفرد ودور المجتمع وعلى التحليل الاقتصادي أن يترجم ذلك إلى توافق بين النظرة الافرادية والنظرة الاجمالية وأن التنظيم الاجتماعي هو قوام التنمية البشرية وأن هذا التنظيم يفترض أن يشغل حيزاً مرموقا ًفي الفكر التكاملي.