قبل مغادرة المستقبل

 

                                                                                        

 

                                                                                     أ.د. مهدي صالح دواي

 

 

لقد حظي ( المستقبل ) بالاهتمام الاستثنائي في تطلعات الانسان بمختلف مواقعه , لما يمثله من افاق رحبة للآمال والطموحات والتغيير والتطور ورسم السياسات وقيم التجارب , وتعد غيبيات هذا الزمن جزأ مهما في البشر , اذ يتفانى الناس يوميا لكسب هذا الزمن المجهول , فقد جاء في الموروث الديني الثقافي ما يبرر استكشاف المستقبل حفاظا على مكاسب الحاضر , وديمومة الحياة على الوجه الاكمل .

      وتاريخيا استحوذ المفسرون والعرافة والمنجمون على فن قراءة المستقبل بما املت عليهم عقولهم الباطنية من مواهب وقدرات الى ان تطورت وسائل الدخول الى الزمن القادم بتطور الوسائل الحسية والغير حسية للتنبؤ , نتيجة للطفرات التكنلوجية التي قام بها الانسان في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية , وما بعد الصناعة حاليا , حتى اصبحت هنالك اقسام ومراكز ابحاث متخصصة بعلم المستقبليات , اذ ان فلسفة التخطيط تقوم على حسن التدبير لكسب المستقبل , كما ان موازنات الدول باتت تعتمد كليا على تقديرات المخططين وتوقعاتهم .

      من هنا تنبثق اشكالية كسب المستقبل في العراق , لاسيما ان موروثه عبر ازمنة (التاريخ السحيق والمتوسط والحديث ) , قد افصح عن تفنن أهله بأساليب التخطيط والاستعداد المبكر للمفاجئات الاتية , فالسبق الحضاري الذي تحقق في العراق لا يمكن ان يتم لولا وجود الرؤيا المستقبلية , وباعتقادنا ان انتكاسات العراق السياسية والاقتصادية كانت بفعل قصور الرؤيا البعيدة الامد , والاعتماد المفرط على القرارات الانية , من هنا تقع على عاتق النخب السياسية والتشريعية والاكاديمية مسؤولية النهوض بواقع التخطيط العلمي انطلاقا من المبررات الاتية

  1. ان عالم اليوم يميل نحو التكتلات السياسية والاقتصادية لتجاوز حالة عدم التجانس في مؤهلات الدول , لذا ينبغي تكثيف الجهود التخطيطية لضمان دور محوري للعراق يتجاوز الاطار المحلي , ويليق بدوره الحضاري عبر الزمن , فإغفال هذا الجانب يبقي التجربة العراقية اسيرة التأثيرات الخارجية , ويبعدها عن مزايا المستقبل بآماده المتعددة .
  2. ان اشكالية العراق الاقتصادية لا تكمن بضعف مقوماته المادية والبشرية , وانما في استثمار تلك المقومات وادارتها والتخطيط السليم لوضعها في الميدان , وهنا تكمن خطورة المشكلة , فالإبقاء عل النزعة ( الريعية – الاستهلاكية ) قد يعقل من فرص الابداع والتفوق , مما يحتم التخطيط لا يجاد منافذ جديدة لا طلاق مكامن القوة لهذا البلد .
  3. ان تحديد الاهداف مسالة في غاية الاهمية لكسب المستقبل , اذ تبنى عليه سياسات واليات معقدة , وتعبر عن مدى مصداقية السلطات التنفيذية والتشريعية اتجاه الشعب , ومن هذا المنظور ينبغي ان يكون دخول المستقبل مبني على معطيات علمية وواقعية لتجنب الانحرافات والفشل , وان تتجاوز عملية تحديد الاهداف الاستحقاقات السياسية الانية, وعدها من الثوابت الوطنية الاساسية . وتأسيسا على ما سبق واستثمارا لفعالية التعداد العام للسكان , ينبغي التعامل بإيجابية قصوى مع المؤشرات السكانية والاقتصادية , لا عادة قراءة الاقتصاد العراقي من جديد بهدف الاستشراف العلمي للمستقبل , اذ ان كشف الحقائق سيسهل على المختصين التعامل بموضوعية مع نقاط الضعف والقوة التي يمر بها اقتصاد هذا البلد , اضافة الى الحاجة الملحة لعودة الاهتمام الدولي بأداء الاقتصاد العراقي من خلال ادراج مؤشراته المتنوعة ضمن التقارير الدولية , لاسيما تقرير التنمية البشرية – الذي يشكل مسحا دوليا سنويا تتفانى الدول نحو مواقع الصدارة فيه – لأهميته الاعتبارية في عودة الثقة بالاقتصاد العراقي , واهميته الاقتصادية في تركيز الاهتمام على جوانب الضعف والقوة لا يجاد الحلول المناسبة . ان  امتلاك العراق أطرا مؤسسية للتخطيط , يضاف اليها تنوع تجربته وقدمها في هذا المجال , تجعله قادر على توظيف الامكانيات المتاحة لرسم سياساته المستقبلية بثقة عالية , ويتناغم مع هذا الدور , اقرار التشريعات التي اتاحت للمحافظات صلاحيات رسم سياساته المحلية , مما يحتم ايجاد تقنيات جديدة قادرة على استيعاب تلك المتغيرات , فالتجارب السابقة للتخطيط المركزي لم تأخذ مداها الجغرافي والبشري بالشكل المطلوب , في حين مازالت التجربة الجديدة في مرحلة مبكرة لا ترقى الى الدور الكبير الموكل اليها , ومع وجود جملة تحديات حقيقية الا ان هنالك المزيد من الخيارات لتفعيل انشطة الخطيط العلمي الايجابي منها :

     امكانية زج المخرجات الاكاديمية المتخصصة في رسم السياسات المستقبلية , عن طريق طرح خطط محلية واتحادية تأخذ بالحسبان خصوصية المحافظات المادية والبشرية , وتسهيل اجراءات تأسيس المكاتب الاستشارية المتخصصة , والاطلاع التأهيلي المباشر على التجارب العالمية في مجالات التخطيط والمستقبليات , ويسبق ذلك اشاعة ثقافة التخطيط العلمي عن طريق قنوات التلقي المتنوعة , اذ ان جملة الاجراءات السابقة تدخل في صلب قضية الاستثمار في العراق على مستوييه المحلي والاجنبي , فبدون مستلزمات التخطيط , تبقى البرامج الاستثمارية في اطار العشوائية والتعثر . ان تجارب العالمية الفذة تسعى اليوم لا دراك المستقبل الافضل لتجسيد مبدا الاستدامة في تنميتها البشرية , ولتواكب التطورات التكنلوجية المتسارعة , فمن الاولى ان نشد الرحال الى المستقبل بخطى واثقة قبل مغادرته المفاجئة لنا .